«كان لك معايا»... النصّ بين «كايروكي» وأمّ كلثوم

من ألبوم أغنية «كان لك معايا»

 

النصّ وسيط ما بين المبدع والمتلقّي، وفق نظريّة التوصيل، لذا من المهمّ أن يكون الأدب قادرًا على التوصيل والإفصاح عن المكنون[1]، بحيث يتفاعل بهذه الطريقة مع قارئه الأوّل ’الكاتب‘، ومع المتلقّين المختلفين. هذا التفاعل يجعل النصّ متعدّدًا، منطلقًا من في ذلك من التعدّد الّذي يقطن قارئيه حين تفاعلهم الأوّليّ معه. بالتالي فإنّه يخلق جمهورًا متنوّعًا من القرّاء والمنصتين للعمل الأدبيّ، كما أنّه يساهم في محاولات إنتاج جديدة للنصّ الأدبيّ.

نجد ذلك في استخدام فرقة «كايروكي» المصريّة لكوبليه «كان لك معايا» من أغنية أمّ كلثوم «أنساك ده كلام» - الّتي غنّتها في ستّينات القرن العشرين - الّذي عُدَّ عقدًا ثقافيًّا لشيوع الاتّجاهات الثقافيّة والسياسيّة في العالم كلّه[2]، ولم تكن مصر متخلّفة عن هذه الاتّجاهات، خاصّة مع توافر أدوات التسجيل الموسيقيّ والطباعة[3] في ألبومهم «أبناء البطّة السوداء» الصادر في عام 2019[4].

ثمّ إنّ شهرة كوبليه «كان لك معايا» لأمّ كلثوم بين الجماهير، كان لها دور مهمّ في إعادة قراءة هذا الكوبليه وإنتاجه بشكل آخر. سواء عبر إعادة غنائه من قِبَل مغنّين آخرين، أو تحويله إلى رسمة فنّيّة مثلما فعل علي الودي في كتابه «أغاني أمّ كلثوم في لوحات فنّيّة»[5]. إضافة إلى استخدامه في موسيقى الروك عند «كايروكي»، الّتي تختلف عن لحن بليغ حمدي الكلاسيكيّ الّذي أدّته أمّ كلثوم في «أنساك ده كلام». بمثل هذه الممارسة الجماليّة للنصّ وتلقّيه على حدّ سواء، يشير ماركس إلى أنّ الموضوع الفنّيّ يخلق جمهورًا للفنّ ولمنتجاته، أي ذاتًا للموضوع والكيفيّة نفسها، ويحدّد بذلك الاستهلاك تدابير المنتج ما دام أنّه يتطلّب ذاك بواسطة حاجة تعيّن له غاياته[6].

يدخل النصّ في تنوّع لفعل التلقّي وفقًا للتجربة المعيشة للجمهور. ويكأنّ الجمهور يتحاور مع النصّ الأدبيّ نفسه لا فقط يقرؤه. هذا التفاعل يعمل على خلق بيئة تعدّديّة مكثّفة الأبعاد حين التعامل مع النصّ، بحيث يصبح النصّ نفسه منتجًا لنصوص أخرى عبر فعل تلقّيه وتفاعله مع القارئ والمنصت - في حالة الموسيقى - وهذا النوع من تداول النصّ الأدبيّ بكثافة وبفترات زمنيّة أيضًا مختلفة – وفقًا لمثال «كان لك معايا»، فالأغنية نصّ مغنًّى منذ بدايات الستّينات، وأعيد استنساخه بشكل إبداعيّ في موسيقى روك – لاكلاسيكيّة - في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين – يمكن تسميته اليوم على أنّه رحلة عميقة من التواصل الأدبيّ مع النصّ، تتداخل مع  فعلَي الإنتاج والتلقّي للنصّ.

 

النصّ الأدبيّ بين تعدّديّته واستنساخه

يحمل تعدّد النصّ بُعدين مهمّين: أوّلهما أنّه يبدأ من قارئه وتعدُّد تأويلاته حين ممارسة فعل القراءة؛ فكلّ قارئ يحوي في نفسه قراءات ونصوصًا عدّة، بالإضافة إلى تجربته المعيشة المتفاعلة مع هذه النصوص وذاكرة القراءة. في حين أنّ البُعد الثاني يتمثّل في أنّ كلّ قراءة يفتعلها القارئ هي بشكل أو بآخر إعادة قراءة؛ فلا وجود لقراءة أولى، حتّى لو حاول النصّ إيهامنا عبر مجموعة من إشارات التشويق والصنائع[7]. هنا يشير رولان بارت إلى أنّ عمليّة إعادة القراءة هي ما ينقذ النصّ من التكرار[8]. عليه، فإنّ إعادة القراءة فعل ضروريّ وحتميّ، حتّى لو لم ينوِ القارئ ذلك. وحين فِعله ذلك، يكتشف القارئ المتمعّن نسيج النصّ وتاريخ كتابته المتخفّي داخل طبقاته. وهذا ما أثارته كاسان بوصفها أنّ النصّ استنساخ لامتناهٍ لما قد كُتب ولما لا يفتأ يُكتب، وبذلك فإنّ النصّ نفسه يحمل في دواخله خزانة نصوص[9]. عليه؛ فإنّ فعل إعادة قراءة النصّ يمكّننا من ملاحقة تعدّده الشبيه به، ولكن في نفس الوقت الجديد - صورته الجديدة -، ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل سيتمكّن القارئ من إعادة إنتاج النصّ عبر ممارسة فعل إعادة القراءة. وهنا لا يتوقّف القارئ عند حيّز التلقّي، بل ينخرط في العمليّة الإبداعيّة نفسها من خلال استنساخ النصّ.

 

 

بالنسبة إلى كيليطو، فلكلّ قطعة أدبيّة حيوات سابقة تطوي ذكراها، إلى حدّ أنّ الجهد المبذول لإحياء الذكرى لا يستعيد إلّا بقايا مادّة لا تُفصح عن الصورة الوحيدة المجيدة للقطعة المعنيّة. إلّا أنّ هذه البقايا تكون كافية للكشف عن تناسخ المقطوعات[10]. وفي أغنية «أنساك ده كلام»، برز كوبليه:

"كان لك معايا أجمل حكاية في العمر كلّه

سنين بحالها ما فات جمالها على حبّ قبله

سنين ومرّت زيّ الثواني في حبّك انت

وإن كنت أقدر أحبّ تاني أحبّك انت"[11].

فالمقطع السابق، الّذي يُعتبر الكوبليه الرابع الأخير للأغنية، كان الأكثر رواجًا من الأغنية نفسها. علاوة على ذلك، فثمّة العديد من مقاطع الفيديو الّتي تحمل هذا المقطع فقط، وبأشكال مختلفة من الأغنية الكاملة. وبالأشكال المختلفة نقصد تركيب الفيديو نفسه، بمعنى أن ليس كلّ مقاطع الفيديو فيه واحدة؛ فبعضها مقتصّ من حفلة الأغنية نفسها، في حين الآخر يضع صورة أمّ كلثوم ونسخة مسرعة من المقطع لا تتجاوز الدقيقتين. بالإضافة إلى أشكال أخرى تحمل صورًا، وحتّى مقاطع من مسلسلات أو أفلام، ويركَّب عليها هذا المقطع الصوتيّ. 

هذا الثراء من إعادة إنتاج كوبليه «كان لك معايا»، أدّى إلى تعمّق طبقات النصّ نفسه. بالإضافة إلى الحاجة إلى إعادة قراءته مرّة أخرى لإنتاج جديد يشابهه في نفسه، ويختلف عنه في شكله. وما كان لهذا المثال إلّا أن يكون «كايروكي» بانتقاله من كلاسيكيّة لحن بليغ حمدي، وصوت الستّ أمّ كلثوم، إلى موسيقى ’الروك آند رول‘، وبموسيقى حديثة إلكترونيّة، بالإضافة إلى أدوات موسيقيّة أخرى مثل الطبول والصنوج؛ فأخذ «كايروكي» المقطع الصوتيّ نفسه، وأدخله على الأغنية، مع الاحتفاظ بصوت أمّ كلثوم في غنائه؛ فيصبح كالتالي:

"يفيد بإيه النور لمّا يكون سراب

يكتبوا على قبرك كان راجل طيّب

عاش ومات من سكات

سنين ومرّت، زي الثواني، في حبّك إنت

سنين ومرّت زي الثواني في حبّك إنت"[12].

هنا تَجسَّر الفنّان أمير عيد - مؤلّف الأغنية - على إعادة إنتاج النصّ من خلال إعادة قراءته. واللعب فيه بطريقة ذكيّة تكشف عن تعدّديّته وتلاحقه، حتّى وصل إلى تضمينه في أغنية «كان لك معايا» بصوت أمّ كلثوم؛ فيصبح شكلًا جديدًا ومختلفًا عن «أنساك ده كلام»، لكنّه يحمل صبغته الأولى الخفيّة. المثير للدهشة هو انسجام كوبليه «كان لك معايا» مع أغنية «كايروكي»، حيث اقتصر «كايروكي» على اقتطاع جملتين فقط من «أنساك ده كلام» وتوزيعهما على الأغنية ما بين: "سنين ومرّت، زي الثواني، في حبّك إنت"، و"كان لك معايا أجمل حكاية في العمر كلّه". هذا ما يمكن أن يتلاقى مع تسمية كيليطو له على أنّه اختراع، فيقول: "ولكن ما قيمة الكلام الّذي لا يقلَّد ولا يُردَّد؟ ألا يُولِد الاختراع، الّذي لا ينطوي على أيّ قدر من التقليد، سوى غريب الكلام؟ ألن يكون، في نهاية الأمر، إلّا سرابًا قاتلًا، وقضاء على الكلام؟"[13].

في هذا يتلاقى مع بارت بأنّ إعادة القراءة هي ما يُنقذ النصّ، لأنّها هي ما يعيد إنتاجه وتكراره. والتكرار هنا يفيد الاختراع بإبقاء جزء من الطبقات الأوّليّة للنصّ، متخفّية في النصّ الجديد بشكله وفكرته الجديدة. وذلك يتّفق مع محاولات التواصل الأدبيّ للنصّ، وكونه خزّان نصوص لا نصًّا واحدًا فقط. هذا التكرار المتميّز هو ما يخلق جِدة النصّ وهويّته الفريدة. عليه، فإنّه يحرّر النصوص من التطابق  والتشابه، ويهبها هويّة منفتحة. كما أنّ بنعبد العالي يذهب إلى وصف التكرار هذا وتعدّديّته على أنّه حركة مباينة – عبر استخدامها كمقابل لكلمة Différance في تنظير دريدا - من شأنها تحديد الهويّة كانتقال ملتوٍ من مخالف لآخر، فتجعل التجديد ينبثق من عمق التقليد، وتردّ إلى التقليد غناه وثراءه، فكأنّها تسمح لنا بأن نردّد القول ونقوله مرّة أخرى أوّل مرّة[14]. من هنا يمكن تتبُّع تعدّديّة النصّ الأدبيّ وفردانيّته في نفس الوقت.

 

«كان لك معايا» بناءً ثقافيًّا

يعتبر بورتيس الثقافة نسقًا متمثّلًا بمجموعة من النصوص[15]، لكنّ ذلك يجعلنا نتساءل عن طبيعة النصوص المعنيّة. أهي النصوص التقليديّة بشكلها المكتوب، أم أنّها المؤدّية مثل الغناء والفنّ، أم أنّها نصّ مفتوح؟ من الجدير ملاحظته أنّ اعتماد النصّ التقليديّ المكتوب فقط دون غيره يقصي عددًا لا بأس به من التنوّع النصّيّ الّذي يشكّل أيّة ثقافة، خاصّة مع اعتبار لوتمان أنّ الثقافة في مجملها نصّ ذو بنية مركّبة[16].

هذا الاعتقاد يتوافق مع تطرّقه إلى الهامشيّ في النصّ خلال دراسته للسميائيّات، وبالتالي يفتح المجال أمام تأمُّل مرونة النصّ وقدرته على احتواء روح ثقافيّة في طيّاته. بناء على ذلك، هل يمكن اعتبار الثقافة نصًّا متكاملًا ومتنوّعًا قائمًا بذاته، ومولّدًا لنصوص عدّة، واعتبار هذا التوليد معبّرًا عن هويّة ثقافيّة شامخة ومكثّفة؟  خاصّة أنّ انتقالها ونشرها بين الناس يعتمد على سميائيّتها وتمثّلاتها وعلاقاتها وتصوّراتها في الوعي، ورمزيّة تقديمها في مؤسّسات الإعلام المختلفة، لتسهيل وصولها إلى الناس، أي بشكل آخر تمثّلاتها ما بين المنتج والمؤدّي والمتلقّي.

 

 

بذلك، فهي تمثّل فسيفساء ثقافيّة متعدّدة الصيغ واللغات على حسب تعبير لوتمان[17]. عليه، مع هذا التنوّع تكون متجاوزة لما هو أدبيّ باعتبارها مولّدًا لعدد لانهائيّ من النصوص، خاصّة مع تعميق الاحتفاء بالنصّ ذي القيمة العالية كما يصفه بوسنير[18]، الّذي يُردَّد بأشكال عدّة من شأنها أن تغيّر في معنى النصّ، حيث إنّها تغيّر في بنيته وأنساقه المضمرة. كأنْ تغنّي مي فاروق أغنية «أنساك لأمّ كلثوم»، نفس الكلمات ونفس اللحن، لكنّ صوت المؤدّي مختلف، وبذلك تخلق شكلًا جديدًا للنصّ. كما أنّ هناك احتفاء عميقًا بفنّ أمّ كلثوم، ولا يقتصر فقط على غناء أغانيها، بل يمتدّ لتسجيل إرث أمّ كلثوم في موسوعة أعلام الموسيقى العربيّة، بالإضافة إلى إعادة إحياء أغانيها في الحارات الشعبيّة المصريّة والراديو وفي سيّارات الأجرة، فضلًا على عرضها بتقنيّة الهولوجرام في مسارح عدّة ما بين السعوديّة وقطر ومصر[19]، وإدخالها كمقطع صوتيّ ضمن أغنية مثلما فعلت «كايروكي». وهذا التعدّد في الإنتاج ما هو إلّا إثراء لدهشة النصّ وحركة تلقّيه.

يتّضح إضمار البناء الثقافيّ المجتمعيّ في «كان لك معايا» عبر تأمّل العلاقات الضمنيّة المتشابكة ما بين اسم الفرقة المنتجة للأغنية والألبوم والأغنية نفسها. يُعتبر اسم «كايروكي» مزيجًا من الكلمتين Karaoke وCairo. تحمل الفرقة اسم مدينة القاهرة الّتي تُعتبر عاصمة مصر، بمعنى أنّها أبرز ما يمكن أن يُعرِّف مصر كهويّة ثقافيّة بحمولاتها النصّيّة المتعدّدة وأبعادها. والآخر، وهو يحمل معنى الكاريوكي، الّذي يعيد فيه الشخص عادة غناء أغنية مشهورة بصوته، وتكون الكلمات على الشاشة، وفي الخلفيّة لحن الأغنية. بذلك، تكون فكرة «كايروكي» هي نفسها إعادة إحياء المقطوعات الموسيقيّة المشهورة منها والخفيّة، أي الّتي شارفت على الاختفاء. 

ومع دمج فرقة «كايروكي» لهذين الاسمين، فإنّها نصّ في حدّ ذاته، ويحمل رمزيّة التعبير عن الأغاني القديمة، ولكن بروح الزمن الّذي يعيشون فيه. لم تكن «كان لك معايا» الوحيدة في هذا الصدد، بل غنّت الفرقة «لسّة فاكر»، وهي أيضًا من أغاني أمّ كلثوم. فهذا التجديد في النصّ، وحتّى بتغيير إيقاع الموسيقى من كلاسيكيّة ومقامات تقاسيم إلى موسيقى ’روك آند رول‘ و’الراب‘، كان محاولة للخروج عن المألوف واتّباع غرابة النصّ. خاصّة أنّه لا أهمّيّة للنصّ خارج غرابته؛ فالغرابة دعوة إلى التفاعل، للمشاركة في النصّ؛ إذ عن طريق الدهشة يتحوّل المتلقّي إلى عنصر فاعل في العمليّة الإبداعيّة[20]؛ فبالغرابة يصبح المتلقّي عنصرًا لا يخلقه المبدع وإنّما يخلقه النصّ، والغرابة تتولّد من العجيب في النصّ، واستشفاف الغرابة معناه تذوّق النصّ[21]. مع هذا المزيج من الغرابة والدهشة بين ثنايا النصّ، تنضج القاهرة وصوت الشباب في مصر، لتكون «كايروكي» معبّرة عن واقعهم وحاملة لهويّتهم الثقافيّة الفرديّة والجماعيّة على حدّ سواء. خاصّة أنّ الشارع المصريّ استطاع أن يجد نفسه فيها، لأنّها أقرب إلى روحه وتفكيره من بعض الأغاني الأخرى.

هذا التمازج حمّل أغاني «كايروكي» طبقة من طبقات الأدبيّة. كما أنّ الإبداع في أغنية «كان لك معايا» لم يكن مقتصرًا على كلماتها وقربها من الجمهور، بل أيضًا إيقاع ’الراب‘ الجديد على الفرقة، ودخول مقطع «أنساك» بصوت أمّ كلثوم بشكل متكرّر في الأغنية[22]. هذا الاتّصال الممتع والجريء مع أمّ كلثوم كان من الشجاعة في الإبداع - على الرغم من الهالة المقدّسة الّتي تحيط إرث أمّ كلثوم - والتفكير خارج الصندوق لإنتاج نصّ أدبيّ جديد متعدّد القراءات، وهذه القراءات المتعدّدة أشدّ ما يشهد عليها هو تفاعل الجمهور مع «كان لك معايا» الّتي كانت تنتقد وهْم وسائل السوشال ميديا والشهرة والذوق العامّ للموسيقى في البلاد، من خلال مقاربتها بشكل ضمنيّ مع كلاسيكيّة أمّ كلثوم بكوبليه «كان لك معايا»، الّذي يشير بشكل أو بآخر إلى التطرّق إلى فكرة الزمن والأذواق العامّة، ما بين الآن والسابق. وكيفيّة، بل احتماليّة، خلق مشهد فريد عبر فعل الإنصات للنصوص وللموسيقى.

كما أنّ إيراد الأغنية داخل ألبوم معنون بـ «أبناء البطّة السوداء»، كان له رمزيّة متّصلة بالشارع الشعبيّ المصريّ. وخالق لحلقة وصل مع لغة الجماهير وسيكولوجيّتهم، حيث إنّه من اللغة المحكيّة في الشارع المصريّ، الّتي لا يعجز عن فهمها أحد، وبالتالي فهي سهلة وسريعة الوصول إلى المتلقّي. كما أنّه من اليسير إعادة قراءتها بشكل إبداعيّ، وهي تشير إلى الأشخاص المنبوذين أو المختلفين الممارَس ضدّهم اضطهاد، سواء ممنهجًا كان أو غير مقصود؛ فتجد الشخص يعبّر عن استنكاره من الاضطهاد، سواء كان الموقف هزليًّا أو جدّيًّا بقول (هو أنا ابن/ بنت البطّة السودا؟)[23].

 

 

هذا يمكن اعتباره إعلانًا صريحًا على رفض الاضطهاد  والتدخّل في كيفيّة سير حياة الشباب، وبالتالي فهو مناهض للسلطة، سواء كانت نخبويّة أو غيرها. الجميل أنّه يحاول العمل على خلق سرديّته الخاصّة من تجربته ومشاعره، وهذا ما نجده من كلمات «كان لك معايا»، حيث يعبّر فيها عن الذاكرة الجمعيّة لقطاع واسع من الشباب والمراهقين، الّذين تشكّلت خبراتهم عن الحياة مع «ثورة يناير» 2011 – إذ كانت لحظة تفجّر التلقّي لـ «كايروكي» في الشارع المصريّ مع أغنية «صوت الحرّيّة» - وهذه الخبرات ما زالت في تطوّر مستمرّ وتخبُّط من المشهد العامّ الّذي آلت إليه الثورة، وما أسقطته في الجماهير. بالإضافة إلى تغيّر الذوق العامّ وأحكام القبضة على التعبير. تقول «كايروكي» في «كان لك معايا»:

"عاوزينك دايمًا سجين وعقلك هو الزنزانة

...

بياكلوا فأحلامك الجريئة المتحمّسة

انت لقمة اتّاكل وانت ساكت

المعرفة تهمة، علشان تنجح لازم تبقى ساقط

فنّك يبقى هابط

صوتك يبقى خافت أو مش مسموع"[24].

هنا تتجلّى ممارسة السلطة في تكميم لا الأفواه فقط، بل العقول والوعي، على حدّ سواء. هذا الوعي الّذي قاد الثورة، ثمّة مساعٍ حقيقة لإحباطه للمحافظة على وجود السلطة على تنوّعاتها. فهذا الخوف الّذي يكتسح الشباب المصريّ في التعبير عن حاله ومشاعره وكيفيّة تطبيعه  للوضع الّذي يضطهده، ويقتل أحلامه في مهدها كشيء من الممارسة اليوميّة الطبيعيّة، كأنّه لا خلل به ولا تساؤُل. كأنّ أمان الفرد بأن يبقى متخفّيًا وغير مسموع. لكنّ الموسيقى وبالذات ’الراب‘ في هذه الحالة - لعنفوانها وصخبها الداخليّ وأصوات موسيقاها الإلكترونيّة - تحاول قرع جدران خزّان الصمت، وفي نفس الوقت تطالب بالإنصات لها مبطّنة معالمها في جوفها.

من هنا جاءت فكرة إعادة قراءة النصّ، بين مختلف المتلقّين الّذين بشكل أو بآخر يشتركون في إنتاج جديد للنصّ. سواء بتعبيراتهم عنه أو إعادة غنائهم. وحتّى بحركتهم وصراخهم داخل قاعة حفلة الأغنية، أو تكرار سماعها بشكل روتينيّ بسمّاعات الرأس للتعمّق في الإنصات لها، كأنّها تحاور – لأنّها البورتريه الجمعيّ له ولرفاقه – وعليه، «كان لك معايا» رحلة وصل ما بين كلاسيكيّة أمّ كلثوم وطربها وذكراها مع المحبوب - الآخر أو الشريك - إلى «كان لك معايا» ومحاولتها تجريد المجتمع من عثراته، وتعرية تفشّي السلطة حتّى في الحلم والقرار، مع تنزيه الوطن المحبوب بــــــــ "كان لك معايا أجمل حكاية في العمر كلّه"[25]. وعن الزيف والوهم المستشري في المجتمع مع رهاب الخوف والسلطة ونخبويّتها، كما نجدها في:

" انت وحيد هما سوا نجوم بعيد في السما

باصّين عليك من فوق... جعانين شهرة فلوس وضوء"[26].

 

عامّيّة اللغة في «كان لك معايا» 

إنّ النصّ يسمح للذات بإعادة اكتشاف ذاتها من جديد، وإبراز مكنوناتها، والنصّ باعتباره لغة متميّزة ينقل العالم الواقعيّ ليجعل منه عالمًا متخيّلًا يتيح للذات إمكانيّات عيش أكبر؛ فالذات تعيش عالم النصّ بكلّ تفاعلاته فتتأثّر به[27]؛ فعلاقة الذات بالنصّ، أو اللغة، تتعدّى حدود المباشرة السطحيّة – حتّى لو كانت لغة النصّ، لا اللغة داخله حيث إنّها مستوًى آخر من اللغة، من عامّيّة المتلقّي. فليست اللغة تربطنا بها علاقة فحسب، بل هي سيّدة العلاقات، هي محرّكة العالم وكاشفة الوجود، وهي الّتي تعطي وتمنح وتحفظ وتحمي، وعلى الإنسان أن يسكن في بيتها ويرعاه[28].

 إذن، على الإنسان أن يسكن النصّ ويدع النصّ يسكنه. وهذه العلاقة التشابكيّة لا تجري إلّا عبر اللغة بطبقاتها المختلفة وسيكولوجيّتها نفسها أمام سيكولوجيّة القارئ، أو المتلقّي، لكي تشكّل احتواء لكلا الطرفين، وهذا الاحتواء من شأنه أن يخلق الحوار ما بين النصّ ومتلقّيه، خاصّة أنّه بهذه الطريقة يوسّع مدى الإنصات؛ فيستشعر المتلقّي أنّ النصّ موجّه إليه دون غيره. هذا الشعور يجتاح الإنسان بمهارة إن تمكّن من لغته، وهنا يتشكّل إبداع اللغة العامّيّة داخل نصّ «كان لك معايا». من الجدير بالذكر الانتباه إلى أنّ عامّيّة اللغة لم تتوقّف على المفردات نفسها، بل بطريقة تأديتها – الراب والروك آند رول -  والتغيير الّذي دخل على مقطع أمّ كلثوم بصوت أمّ كلثوم، ليكون إيقاعه محاولة جادّة في حواريّة النصّ وتواصله ما بين القارئ والمتلقّي والمبدع، على حدّ سواء.

 


إحالات

[1] أسماء معيكل، النصّ والتأويل من فرديّة الإنتاج إلى تعدّديّة التلقّي في: التأويليّات وعلوم النصّ، (تطوان، منشورات مختبر التأويليّات والدراسات النصّيّة واللسانيّة في جامعة تطوان، 2019)، ص255.

[2] Janet Maslin, Brokaw Explores Another Turning Point, the '60s, (The New York Times, published in 05 November 2007) Last access: 22 April 2022. Available from: https://bit.ly/3rO8ZIj .

[3] مكاوي سعيد، القاهرة وما فيها: حكايات، أزمنة، أمكنة، (القاهرة، الدار المصريّة اللبنانيّة، 2018)، ص153.

[4] أحمد السنوسي، كايروكي يستعدّ لإطلاق ألبوم "أبناء البطّة السوداء" في مارس، (بوّابة أخبار اليوم، نشر في: 19 مارس 2019)، آخر دخول: 22 أبريل 2022. متوفّر في:  https://bit.ly/36Esls1.

[5] علي الودي، أغاني أمّ كلثوم في لوحات فنّيّة.

[6] Karl Marx, Friedrich Engels, Trans: Richard Dixon and others, Marx-Engels Collected Works, Volume 13 - Marx and Engels: 1854-1855, (London, Lawrence and Wishart, 1980) P.624.  

[7] عبد السلام بنعبد العالي، النصّ المتعدّد، (الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 2020)، ص10.

[8] مرجع سابق، النصّ المتعدّد. ص10.

[9] مرجع سابق، ص10.

[10] عبد الفتّاح كيليطو، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، الكتابة والتناسخ: مفهوم المؤلّف في الثقافة العربيّة، (لبنان، دار التنوير للطباعة والنشر، 1985)، ص23.

[11] إيزيس فتح الله، محمود كامل، موسوعة أعلام الموسيقى العربيّة: أمّ كلثوم، (القاهرة، دار الشروق، ط2، 2008)، ص152.

[12] كلمات كان لك معايا كايروكي، موقع  Muisxmatch، نشر بتاريخ 03 نوفمبر 2019، آخر دخول: 23/04/2022. متوفّر في:  https://bit.ly/3rLdiEj.

[13] مرجع سابق، الكتابة والتناسخ: مفهوم المؤلّف في الثقافة العربيّة، ص19.

[14] مرجع سابق، النصّ المتعدّد، ص16.

[15] Winner Irene Portis, Ethnicity, and the Theory of Cultural Studies, In Semiotics of Culture , (Berlin, Boston: De Gruyter Mouton, 2019), P 115.

[16] عبد الله بريمي، السميائيّات الثقافيّة النصّ والضرورة التأويليّة: التأويليّات وعلوم النصّ، (تطوان، منشورات مختبر التأويليّات والدراسات النصّيّة واللسانيّة في جامعة تطوان، 2019)، ص241.

[17] مرجع سابق، عبد الله بريمي، ص243.

[18] Roland Posner, Basic tasks of cultural semiotics, (Berlin, Technical University of Berlin, 2003), P325.

[19] مي عبد الله، تفاصيل حفل أمّ كلثوم بتقنيّة الهولوجرام من داخل قصر عابدين، (بوّابة الأهرام، 9 نوفمبر 2020) آخر دخول: 23 أبريل 2022. متوفّر في: https://bit.ly/3y4PHCH.

[20] عبد السلام المسدّي، النقد والحداثة، ( بيروت، دار الطليعة، 1983)، ص 18. 

[21] مرجع سابق، النقد والحداثة، ص 18.

[22] أحمد الصبّاغ وآخرون، كايروكي: أبناء البطّة السوداء أم البيضاء؟ (مدى، نشر في 31 أغسطس 2029)، آخر دخول:  23 أبريل 2022. متوفّر في: https://bit.ly/3EEZws5.

[23] مرجع سابق، كايروكي: أبناء البطّة السوداء أم البيضاء؟

[24] مرجع سابق. 

[25] مرجع سابق.

[26] مرجع سابق.

[27] جويدة علاوة، نظريّة النصّ عند بول ريكور: بحث في المرجعيّات الفلسفيّة، (القاهرة، دار رؤية للنشر والتوزيع، 2019)، ص185.

[28] سالمة فرج، طبيعة العلاقة بين اللغة والفكر، (ليبيا، مجلس الثقافة العامّ، 2008)، ص141.

 


 

منى المصدر

 

 

 

شاعرة وكاتبة فلسطينيّة تعيش في قطاع غزّة، صدر لها عن دار الأهليّة مجموعة شعريّة بعنوان «لأنّني أخشى الذاكرة» عن «دار فضاءات» (2020)، «أعدّ خطاي» عن «دار فضاءات» (2017).